عن تاريخه، عن أهله الجدد و القدامى و الأقدم منهم، عن مئات السّنين تحوّل فيها المعبد الرّومانيّ إلى كنيسة “القدّيس فانسان الشّهيد” على يد القوط الغربيين، ثمّ إلى مسجد على أيدي الأمويّن، ثمّ إلى كنيسة من جديد بعد سقوطها في أيدي الملوك الكاثوليك، ثمّ إلى الكاتدرائية الحاليّة.
سألتُ عن أوقات الزّيارة، معلومها و أفضل الأيّام لها …
قال الجميع لي :المسكيتا رائعة .. و أنتِ بالذّات ستعشقينها.
استيقظت على صوت المنبّه قبيل السّابعة صباحا، حضّرت نفسي على عجل ثمّ انطلقتُ أشقّ طريقي في أزقّة قرطبة الضّيّقة.
مستمتعة ببمشهد شرفاتها النّائمة و شمسها المتثائبة، بدا لي سور المسكيتا من بعيد، جلستُ في مقهى قبالته أتناول فطورا اسبانيّا تقليديّا.
لم أكن أعلم أنّ للطّماطم الطّازجة المرحيّة المخلوطة بزيت الزّيتون على الخبز المُحمّر طعما خرافيّا هكذا !
فُتح باب المسكيتا
اجتزتُه دخلتُ أنا و سقف توقّعاتي الشّاهق مع وُفود الزّائرين، خطوتُ بضع خطوات، تجوّلت عيناي هنا و هناك…
ثمّ أقرّيتُ لنفسي بشيء :
أنا أشعرُ ببعض الخيبة !
لم تكن خيبة لأنّ المكان ليس جميلا.. فالمكان حقّا جميل
لكنّني كنتُ أتوقّع المسكيتا كال”هيرالدا”: منارة إشبيلية الشّامخة التي لففت حولها مرّات و مرّات كي أشاهدها من كلّ الإتّجاهات ثمّ جلستُ أتأمّلها لساعات دون أن يزول انبهاري.
كقصر الحمراء بأسواره الشّاهقة، كقصري قرطبة و إشبيلية بحدائقهما التي تعرف أين تبدأ و لا تعرف أين تنتهي.
كصرخة غجريّة في آخر أغنية فلامنكو حزينة ترفقها بضربات حذائها على الأرض في كبرياء.
كزلزال عنيف، توقّعتها أن تهزّني، ترجّني من الوهلة الأولى دون انتظار
لكنّها لم لم تفعل
كانت المسكيتا جميلة في سكون…
… خرجت
فقط لدقائق أغمضتُ فيها عينيّ مفرغة ذهني من كلّ ما قيلَ لي عن المسكيتا متجرّدة من توقّعات أثّرت عليها روايات الآخرين…
ثمّ عُدتُ لنتعارف مجدّدا، لنتعارف حقّا!
دخلتُ ببطئ، وقفتُ طويلا عند غابة من الأقواس مخطّطة بالأبيض و البرتقاليّ مرتكزة على أعمدة صلبة.
أقواس دائريّة بسيطة أحيانا و معقّدة الهندسة أحيانا أخرى تبوح بالطّابع الإسلاميّ لمن بنوها، تتدلّى من بينها قناديل معلّقة في أسقف متفاوتة العلوّ و الشّكل و الزّخرف، تحيطُ بالأعمدة و أقواسها غرفٌ متعدّدة مغلقة بأبواب من قضبان حديديّة سوداء رفيعة ترى من خلالها بوضوح الأيقونات المسيحيّة التّي داخلها :رسوم جداريّة، تحف، قطع أثاث خشبيّة لابدّ أنّ لها استخدامات دينيّة، منحوتات للعذراء، للمسيح، لشخصيّات أخرى الأرجح أنّها تجسّد أحداثا دينيّة …
انطلقت في المكان موسيقى هادئة لإحدى التّرنيمات تُعلن عن اقتراب موعد الصّلاة
سرتُ على مسمعها نحو الجدار الخلفيّ للمسكيتا عابرة الأقواس الإسلاميّة و الأيقونات المسيحيّة.
المكان عبارة عن قاعة وحيدة واسعة يسهل التّنقّل فيها
كان الجدار الخلفيّ تحفة من تحف الفنّ المعماريّ الإسلاميّ :
أقواس منحوتة بدقّة متناهية في الجدار و أخرى تفتح على غرف جديدة يزركشها مزيج من المنقوشات من كتابات عربيّة و أوراق أشجار و أزهار في ألوان يغلب عليها الأسود و الذّهبيّ و البرتقاليّ فوق رخام أبيض.
وقفتُ مشدوهة أحاول أن أقرأ إحدى المنقوشات العربيّة تهدهد خيوط الشمس الصّباحيّة المتسلّلة من النّوافذ المرتفعة بصري.
: “بسم الله الرحمان الرّحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن”
لحن التّرنيمة يُحيط بي … أقواس بني أميّة و تماثيل المسيح ورائي … آياتٌ قرآنيّة أمامي تزيّن تحفا معماريّة فريدة …
سكّان اليوم و سكّان الأمس هنا اجتمعوا، عجّ الجوّ ببصماتهم جميعا، استنفرت مسامّاتُ جلدي و شُحنت روحي بمزيج من الأحاسيس الغامضة…
وجدتني فجأة أردّد الآذان بصوتٍ منخفض !
هنالك أغنية فلامنكو غجريّة تقول :
” عندما أسمع صوت دمي العتيق ( أسلافي ) الذي يغني ويبكي .. إذ يتذكر قرون الرعب الماضية
أشعر بأن الله يعطر روحي الغجرية ، فأمضي في العالم أغرس الورود بدلا من الألم ”
و أنا أيضا كنتُ أسمعُ صوتا ما يُخاطبني بلُغتي هناك
لم أكن أسعى إلى إخراج مُجلّد التّاريخ و الحُكمِ على ساكنيه المُتعاقبين و ما لهم و ما عليهم
كلّ ما في الأمر حيّاني صوتٌ أخرس و شعرتُ لوهلة بأنّ يدا ربّتت على كتفي ” أتسمعين صوتي المبحوح ؟”
لا أدري حزنا أم انبهارا أم عجزا أمام شحنة من الطّاقة غمرتني ببطء حتّى تغلغلت في داخلي و لم يعد لي قبل بدفعها…
كموج مُغالط يُبدي لكَ سُكونه فتدخله واثقا ثمّ يسحبك رويدا رويدا إلى الأعماق …
بل أنّك حين تُدرك ذلك لا تفعل شيئا لمقاومته !
فريدة عن كلّ ما عداها،متمنّعة كانت على سائحة أتت طالبة جرعة الانبهار السريع الخرافيّ الذي حدّثها عنه الكثيرونو مُذهلةً… مذهلةً حتّى الذّوبان و القشعريرة حين أتيتها في هوادة، فاتحة قلبي و مصغية إلى روحها. .
وفاء