من مذكّرات مهاجر “غير شرعي”

migrants Lampedusa

ركبت البحر مع من ركبوه أفواجا لبلوغ الضفة الأخرى للمتوسط.

كنت قد حلمت كثيرا بأوروبا

بطبيعتها الجميلة، مدنها النظيفة، مبانيها العصرية و القديمة، بناتها الحسناوات …

و خاصة بعمل جيد يدر علي مالا يكفيني أنا و أبوي و إخوتي.. و يكفي مصاريف زواج تأخر أكثر من مرة.

 

لم أكن أتمنى أن أذهب إليها مهاجرا غير شرعي هكذا، لكن الجميع ركب البحر إثر رحيل بن علي.

الجميع حتى أنني خجلت من أن أقول لا حين أتاني ابن عمي ماهر ليعلمني برحلة مبرمجة بعد يومين ينوي الذهاب فيها :

كان ليتّهمني بالجبن، و كنتُ لأندم طويلا إذا لم تأتِ بعد ذلك فرصة “شرعيّة”… و الغالب أنّها لن تأتي.

 

كنت قد وفرت ثلاثة آلاف دينار لكراء قاعة أفراح جيدة ليسرى.. سأستعملها للرحلة.

كانت يسرى متفهمة عموما.. قبلت الاقامة مع ابوي في بداية الزواج، قبلت أثاثا بسيطا اشتريته بمساعدة اهلي، قبلت انتظاري سنوات طويلة لكنها ارادت قاعة افراح جيدة، و قبلت انا شرطها.

ها أنذا بصدد تخييب أملها في و انا أؤجل زواجنا مرة أخرى..

لكنها ستفهم انني فعلت ذلك لمصلحتنا حين ابلغ هدفي و اجد وظيفة تعوضنا سنوات الخصاصة.

 

ليلة رحيلي سهرت مع ابوي حتى ساعة متأخرة من الليل، لم اعلمهما انني في الصبح اشد الرحال ولا ادري متى اراهما من جديد.. و إن كنت قد أراهما يوما آخر من الأساس.

اشتريت مشروبات غازية و حلويات و مكسرات، طلبت من أمي أن تستريح و أعددت الشاي عوضا عنها، لم أتركها تغسل الأواني ليلتها :

” بإمكان ذلك أن ينتظر إلى الغد، ابقي معنا في غرفة الجلوس”

كان أبي يحلل أخبار الثامنة و كنت ليلتها أسايره في جميع تحليلاته عكس عادتي، ثم ما إن رأيته يتثاءب حتى زدته كأسا آخر من الشاي :

” لا تنم الآن يا حاج، مازال الوقت مبكرا”

نجحت في جعل أمي تسهر أكثر منه بعد أن خفضت درجة تسخين المدفأة خلسة، رفعت صوت التلفاز و فتحت معها كل مواضيع النقاش الممكنة.. غلبها النعاس في النهاية.

أطفأت الضوء سوى فانوس صغير، أغلقت التلفاز، رفعت درجة تسخين غرفة الجلوس حيث نام أبواي و بقيت أتفرس في وجهيهما كمن يريد حفظ ملامحهما.

 

هل تراني أعود، أم تراني ينتهي بي الأمر وجبة للأسماك ؟

ثم استغفر الله و اقول لنفسي بانها وسوسات شيطانية لإحباطي..ترتفع بي الأحلام… ترتفع..ترتفع.. يهوي بي كابوس إلى الحضيض.. ثم أحلم من جديد…

و يسرى؟

لا قدرة لي على محادثتها الليلة

لا قدرة لي على إخبارها بأنني أؤجل زواجنا إلى أجل غير معلوم

ستتوسلني أن أبقى، ستفعل أي شيء لمنعي من الذهاب، ستبكي…و أنا لا قدرة لي على رؤية دموعها.

يا لهذا الجبن المهين الذي يتملكني !

سأكلمها بعد أن أصل…و إن لم أصل، فقد تركت لها رسالة أشرح لها فيها أسبابي:

أحلامي المتبخرة

سنوات عمري الضائعة

و بصيص أمل قد لاح

ربما تغفر لي يسرى أملي…

 

رسالة قصيرة وصلتني

أتمهل في قراءتها، آخذ نفسا عميقا…

هي رسالة من ماهر :

” نلتقي بعد ساعة أمام مقهى النخيل، لا تتأخر”

لا أتحرك من مكاني

أسحب إلي كأس الشاي الذي برد منذ ساعات.. أرتشف ما بقي فيه.. أعتصره بين يدي كأنني أحاول القبض على تلك اللحظة و منعها من الفرار :

لحظة في منتهى العادية أجلس فيها مع أبوي في غرفة الجلوس نشاهد الأخبار و نحتسي الشاي.

إبقي قليلا بعد أيتها اللحظة.. ابقي.

 

مرت خمس دقائق

نهضت، غطّيت أمي جيدا ثم عدّلتُ غطاء أبي.

فتح عينيه، قال لي مبتسما ” يرضى عليك وليدي”

هممت بأن أقول له شيئا ما، لكن الكلام تكور في حلقي، صار كتلة ساخنة تمتد من فمي إلى معدتي.. تحرقني..اكتفيت بقبلة على جبينه..

ثم خرجت.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *